مهما تقدم بنا العمر فإنه من الصعب نسيان بعض الذكريات بل إن هذه الذكريات تصبح جلية و مبهجة أكثر كلمامر عليها الزمن.
من أكثر الذكريات التي تغمر قلبي بالسعادة تلك التي حدثت في حديقة بيت جدي حيث كانت الأسرة بأكملهاتجتمع مساء كل يوم .
لا زال صوت رذاذ نافورة البحرة الدائرية في أُذُني ، كانت خالتي تقسم البطيخ إلى قطع صغيرة و تعطيني إياها، لكن ليس قبل أن تتأكد أنها نزعت جميع البذور منها ، هامسة في أذني "أنتِ أجمل طفلة" ، لقد كانت خالتيبمثابة العمود الفقري للبيت بأسره .
فوق تلك البحرة الدائرية انتشرت أغصان الياسمين و تدلت فروعها الغضة لتملأ الحديقة بهجة و دفئاً . كانت زهورالياسمين الفاتنة تتساقط في كل مكان بينما كانت مهمتي أن ألتقط هذه الزهور و أجمعها إلى أن تناولني خالتيخيطاً و إبرة لتعلمني كيف أصنع عقداً من الياسمين . لقد أصبحت هذه عادتي طوال فصل الصيف ، و لربماأعزي حبي لممارسة صناعة الحلي و ضم اللؤلؤ اليوم إلى ذكريات الطفولة و ضم زهرات الياسمين جنباً إلى جنب.
في زاوية الحديقة تمركزت البحرة ذات الثلاث طبقات حيث كان شلال الماء ينزل منها . على جانبيها اصطفتأشجار الفاكهة على طول حائط الحديقة التي التفت حول البيت لتزيده أناقة و روحانية ؛ فاكهة الأكي دنيا والنارنج و الكباد و الجانرك و التوت الشامي و أخيراً الليمون الذي كانت أزهاره تفوح بعطر جميل لا يقل جاذبيةعن عطر الياسمين .
بالإضافة إلى ضم زهور الياسمين اللطيفة ، كنت أحب أن أملأ جردل الماء من البحرة لأساعد خالتي في شطفبلاط الحديقة ، كم كنت استمتع بتبليل قدمي بماء الفيجة العذب الذي كان بارداً و منعشاً أيام الصيف .
حين يحين وقت الصلاة أسمع صدى صوت الأذان القادم من مآذن متعددة كأنه سيمفونية ذكر مترافقاً مع زقزقةالطيور و كأنها تقوم بأورادها اليومية لتضيف جمالاً إلى جلال نداء الأذان . كانت خالتي رحمها الله تترك كل مابيدها فور سماعها الأذان لتؤدي الصلاة على وقتها ، كانت مثالاً للمؤمن الصادق بأبسط صوره . تعلمت منها قيمةالعائلة و تعلمت منها معنى الحياة ، كانت كلماتها لي على الدوام كلمات حب و رعاية ، كما أنها كانت تخيط ليكل فساتيني الجميلة فقد كانت خياطة ذائعة الصيت ، رحمها الله !
لقد تأثرتُ كطفلة كثيراً بزهور الياسمين ، تلك الزهرة الدمشقية البيضاء التي اتسمت باللطف و الرقة و السحر والأناقة . كما أن سنوات الغربة الطويلة عن الشام جعلتني أكثر تعلقاً بتفاصيل الطفولة التي قضيتها في حنايا تلكالأرض المباركة التي عرفت على مر التاريخ باسم شام شريف لشرف مكانتها و علوه .
إلى تلك البقعة الجميلة من المعمورة أنتمي ..
الحياة رحلة قصيرة ، بإمكاننا أن نجعلها رحلة جميلة !
Comments