رسالة حبٍ إلى الإنسانية
قال رسول الله ﷺ: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"
وإن الحب لا يفجر في النفس الإنسانية عجائب السلوك وغرائب المعاني المقدسة والراقية، بل يسجل أيضا معاني التضحية والفائدة وليس شيء يخلصالإنسان من معايبه النفسية والسلوكية مثل الحب. ولكن أي حب؟ إنه حب الله تعالى، ذلك الحب المقدس الذي يوصل إليه حب رسول الله ﷺ، إنه
الدواء الذي لا يخيب
يحدثنا جلال الدين الرومي عما يفعله هذا الحب فيقول: "إن الحب يحول والمرة حلوا والتراب تبرا والكدر
وصفاء والألم شفاء والسجن روضة والسقم نعمة والقهر الرحمة وهو الذي يلين الحديد ويذيب الحجر ويبعث الميت وينفخ فيه الحياة ويسوّد العبد. أنجميع المرضى يتمنون البرء من سقمهم إلا أن مرضى الحب يستزيدون المرض ويحبون أن يضاعف في ألمهم وحنينهم، لم أرَ شراباً أحلى من هذاالسم ولم أرى صحة أفضل من هذه العلة، أنها علة ولكنها علة تخلص من كل علة فإذا أصيب بها إنسان لم يمرض بمرض ينقط أنها صحة الروحوروح الصحة، يتمنى اصحاب النعيم أن يشتروها بنعيمهم و رخاءهم"
إن أكبر فجيعة أصيب بها العالم الإسلامي هي فتور هذا الحب المقدس في قلوب المسلمين بسبب إساءتهم إلى دينهم ومخالفتهم عن أمر نبيهم في كثيرمن الأمور وقبولهم البدائل عن رسول الله ﷺ، تلك التي طرحها لهم أعداء الإسلام. هنالك انطفأ بريقهم وضاعت نخوتهم وتخلفوا بين الأمم.
إن المسلم اليوم لم يعد يتمتع بذلك الإشعاع الذي كان يقضي به فيما مضى ظلمات الكفر ودياجير الجاهلية وبالتالي فقد دوره في قيادة العالم إلى الهدىوالرشاد وهذه خسارة كبرى للمسلم. والعلم لا يعوض عنها مهما بلغ العالم من الكشوف والاختراعات والتقدم العلمي والتوسع الاستعماري، أما المسلمفقد خرج من ساحة الرضا الإلهي إلى حيث التخلف وتردى والعياذ بالله في هوة التخلف والتبعية لأمم الكفر وبذلك عادت الحياة شبيهة بما كانت عليهقبل ظهور المصطفى على مثل ما وصف الله سبحانه وتعالى بقوله: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} الروم (٤١) وأما العالم فقدانتكس بعد المسلم إلى حمأة الجاهلية.
واليوم لا يصلح حال الأمة إلا بما صلح عليه أولها وذلك بالعودة إلى طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباع سنته.
وليعلم المسلم أن محبة رسول الله ﷺ ليست شيئاً رخيصاً يُشترى بالثمن البخس أو التقديم البسيط أو أداء القليل من السنن والنوافل، وإنما ثمنه أنيترسَّم في حياته منهج رسول الله ﷺ وأخلاقه حتى يبلغ حرصه في ذلك أن يقع خُفٌ على خُف، وأن تصبح مرضاة رسول الله ﷺ ونصرة دينه همهفي ليله ونهاره، وفي صباحه ومنامه، وفي سره وعلانيته. إن الصحابة الكرام ما نالوا محبة رسول الله ﷺ بثمن قليل لقد تركوا من أجله في الله المالوالولد والأهل والوطن وتركوا الراحة والزعامة ورضوا بالمواجع واستقبلوا المنغصات راضين مسرورين..
في سبيل الله ورسوله كان يحلو عندهم المر، ويسهل عليهم الصعب، ويقرُب البعيد، وتجمل المهالك، وَيعْذُب الموت. وإن من يقرأ أخبارهم في غزوهمسواءً كانوا مع رسول الله ﷺ أم كانوا وحدهم في سراياهم يدرك أنهم ما كانوا في غزوٍ أبداً وإنما كانوا في متنَّزه يسعد قلوبهم. لقد كان حب المصطفىﷺ يمسح على جراحاتهم وآلامهم ويهون لهم المصاعب ويحبب إليهم لقاء العدو ويرطب لهم جو الصحراء وكان حبه ﷺ واحة يؤوون إليها منهجير الكفاح وسهام العدو.
لقد وسّع حب رسول الله ﷺ آفاقهم وساحات قلوبهم وأغوار نفوسهم فغدوا بشراً من نمطٍ ممتاز لا يعرف التاريخ أمثالهم أبداً، يكفي فيهم قول رسول اللهﷺ: "النجوم أمان لأهل السماء وأصحابي أمان لأمتي" ومن يصفه الرسول ﷺ بأنه الأمان فقد كفاه ذلك عزاً وفخر اً وشرفاً وعلواً وسبقاً فيالصالحين وقرباً من الله ﷻ
ويوم أحب الصحابة الكرام رسول الله ﷺ لم يفهموا ذلك الحب متعاً ومشاعر وأشواقاً باهتة مبتورة، وإنما فهموه خروجاً عن الذات في سبيل نصرةالإسلام، ولم يروا أن قضية الإسلام ينقضي شأنها في الشهور والأيام، وإنما عرفوا أن هذا الإسلام قد اختاره الله سبحانه خطاباً أخيراً للإنسانية، خطاباًيحملهم ورقة عمل تمتد منذ لحظة إعلان إسلامهم إلى آخر لحظة في حياتهم بل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .. هنالك شدوا الحيازيم وعرفوا أنأمامهم رحلة تحليق تمتد إلى آخر عمرهم ارتفعوا فيها فوق شهواتهم وفوق ثقلة الأرض ومطالب الجسد وآلام الأرض وأفراحها وأحزانها .. ارتفعواإلى حيث المثل والفضيلة والعطاء ونكران الذات والتجربة والثقة، والثبات والتضحية والجهاد.
.
لقد علمهم حبُّ رسول الله ﷺ أن يحملوا الإسلام رسالة حبٍ إلى الإنسانية وعرَّفهم أن هذه البشرية الضائعة هي أحق بالرحمة والعطف منها بالانتقاموالعقوبة. فخرجوا إليها يحملون لها الهداية على مراكب الرحمة والمحبة في سلمهم حربهم … تُرى أيّ حبٍ هو أعظم مما تؤديه هذه المفاهيم التيذكرها ربعي بن عامر وهو يخاطب رستم يوم توجه المسلمون إلى فتح فارس قائلا: الله ابتعثنا لكي نخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومنضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. أي حب - ترى - أعظم من هذا الحب؟
إنسان يترك مألوف حياته ويترك الأهل والوطن ويضحي بروحه يعرضها للموت ليخرج إلى أمة لا تربطه بها رابطة أبداً من أجل أن يبلغها رسالةالإسلام ويخرجها من الظلمات إلى النور. إن هذه النوايا الطيبة وهذا الحب العظيم لشيء يجلّ عن الوصف وتعجز عنه اللغة حقاً، فمهما أحبتالشعوب الفاتحين المسلمين ومهما أحبت رسول الله ﷺ الذي خرجهم من مدرسته فهو حب قليل في موازين الشكر والجزاء.
وليقرأ المسلم إن شاء صوراً من ذلك الحب والتقدير لرسول الله ﷺ في كتاب الاستاذ أبي الحسن الندوي (الطريق إلى المدينة)، وفيه يعرض نماذج منأشعار العجم تثني على رسول الله ﷺ ويعرض فيه من خياله وفود المسلمين من كل جنس وأرض جاءت تزور قبر الحبيب ﷺ وتؤدي فروضالشكر التي وجبت عليها لرسول الهدى الذي حمل لها نعمة الإسلام ورفعها بهذا الدين مكاناً علياً.
فمن ذلك مثلا يقول الشاعر الهندي ألطاف حسين (المتوفى سنة 1333 هـ): "لقد هاجت سحابة من بطحاء مكة ملأت سمع الزمان وبصره، وشرَّقوغرَّب رعدها وبرقها، فبينما رعدت على نهر تاجة في إسبانيا أمطرت على نهر الكنج في شبه القارة الهندية. لقد أحيا غيثها مزرعة الإنسانية القاحلة،وعمَّ برّها البر والبحر، فما ترى في العالمين رواءٍ وبهاء ونور وسناء، إلا والفضل فيه يرجع إلى البعثة المحمدية".
بقلم الآنسة سميرة الزايد .. تقول: هو كلام شيختي أجراه الله على قلمي
Comments